يوغرطة ( يوگرطن ) ملك أمازيغي زعزع عرش روما
بعد وفاة مسينيسا (Massinissa)، تفرق الملك بين أبنائه الثلاثة. تكلف ميسيبسا بإدارة مملكة النوميديين، وجيليسا بالجيش ومستنبال بالعدل. فترة قصيرة بعد ذلك، توفي الأخوين جيليسا ومستنبال ليستفرد بالحكم الملك ميسيبسا مدة طويلة تراوحت ما بين 148 إلى 118 ق.م، وهي مدة ظل خلالها حليفا قويا لروما متنازلا عن سياسة أبيه التوسعية. وعوض أن يوصي بالحكم لأحد ابنيه أدربعل أو هيمبسال، أوصى به ل يوغرتا ابن أخيه المتوفى مستنبال. وقد خلف مستنبال ابنين قبل وفاته: واحد من زوجة شرعية انثالت عليه الأمراض وأصيب بضعف في الذاكرة، والآخر هو يوغرتا من زوجة غير شرعية. إلا أن هذا لم يحل دون اعتلاء هذا الأخير عرش النوميديين. ويرجع سبب تفضيل يوغرتا عن باقي أفراد الأسرة الملكية إلى أنه تربى يتيما في كنف عمه الملك ميسيبسا الذي أحبه كثيرا، كما أن يوغرتا أظهر من الخصال والقدرات العقلية والمؤهلات الجسدية ما أفرح عمه الملك واستوجب رضاه.
لم يستكن يوغرتا لحياة البذخ بالقصر، بل إنه كان يشارك في السباقات والمصارعات ويربحها، كما أنه كان السباق للخروج إلى الصيد ومهاجمة الأسود والحيوانات الضارية، ما جعل الجميع في قبائل النوميديين يحبونه ويرون فيه صورة طبق الأصل لجده مسينيسا العظيم. حارب يوغرتا إلى جانب الرومان متزعما فرسانه من النوميديين وأبان عن شجاعة وإقدام ناذرين، بالإضافة إلى ترويه في اتخاذ القرارات وإسداء النصائح في ساحة المعارك، ما جعل شيبون إميليان الروماني يكلفه بكل المهمات الصعبة والخطيرة التي كانت تصادفه في شمال أفريقيا. وقد كتب شيبيون لعم يوغرتا الملك ميسيبسا خطابا جاء فيه: لقد أظهر يوغرتا عن شجاعة ناذرة وفكر ثاقب خلال مشاركته في معاركنا، أظن أنك سعيد بذلك. هذا رجل في مستوى تقديرنا لك ولجده مسينيسا .
توفي الملك ميسيبسا سنة 118 قبل الميلاد، ليتنازع ابنيه أدربعل وهيمبسال وابن أخيه يوغرتا الملك. وفي تواجه بين يوغرتا وهيمبسال، قتل هذا الأخير ليؤجج بذلك الصراع على الحكم. تعاطف النوميديون مع أدربعل أخ الأمير المقتول، إلا أن الجيش ظل وفيا ليوغرتا. طرد أدربعل خارج البلاد، حيث فر إلى روما ليطالب بحقه الشرعي في حكم البلاد. وفعلا أعلنت روما أن بلاد النوميديين تابعة لروما وأن ملوك النوميديين ليسوا سوى مكلفين بإدارة الحكم. لم يقبل يوغرتا بهذا الطرح ورفض تحكيم البرلمان الروماني الذي تحالف مع عدوه وابن عمه أدربعل، لكنه بالمقابل طلب تحكيم عشرة رجال من روما لفض النزاع. استطاع يوغرتا بمهارته وحكمته أن يكسب أنصارا له من نبلاء روما. وقد تدخل مجلس الشيوخ في روما لتقسيم المملكة النوميدية، التي كانت في الواقع تخضع لروما، بين ابني العم ليضعفوا من مكانة يوغرتا. تم تقسيم المملكة إلى جزئين: جزء شمالي شرقي يضم الموانئ والبنايات العظيمة لأدربعل وجزء جنوبي غربي قريب من بلاد الموريين بالمغرب الأقصى وغني بمحاصيله وثرواته الطبيعية ليوغرتا.
ويظهر أن يوغرتا لم يعجبه الحل الروماني، لذا ظل يتحين الفرصة إلى أن استقر رأيه على مهاجمة قسنطينة عاصمة ابن عمه أدربعل. أرسل هذا الأخير رسله مستنجدا بحكام روما الذين أرسلوا بدورهم سفراء من درجة عالية إلى يوغرتا يعرضون الصلح، لكن يوغرتا قرر عدم رفع حصاره عن عاصمة ابن عمه، بل تمادى إلى حفر الخنادق حولها ليسد جميع المنافذ. انتهى الحصار بضرب عنق أدربعل وتعذيب وقتل بعض التجار الإيطاليين الذين كانوا يستقرون بشمال إفريقيا بسبب مساندتهم للملك المقتول. وبذلك وحد يوغرتا بلاد النوميديين كما كانت في عهد جده مسينيسا، لكن في المقابل نصب روما العداء الكبير.
بعد ما استفرد يوغرتا بحكم نوميديا لوقت قصير، أعلن البرلمان الروماني عن وحدته المقدسة لمواجهة الخطر الأمازيغي بشمال أفريقيا. وفي سنة 111 قبل الميلاد أرسلت روما جيوشها إلى بلاد نوميديا، وبشيء من الحكمة تركهم يوغرتا يتقدمون داخل بلاده، ثم اشترى ذمة قواد الجيش وأعلن الصلح ليجنب شعبه ويلات الحرب. إلا أنه بعد أشهر من الهدنة، عادت الأصوات في روما تطالب بالقصاص من يوغرتا المتمرد. تحالف يوغرتا مع الحزب الشعبي بروما وضحى بمجموعة من النبلاء الأمازيغ لمحاكمتهم في قضية تعذيب الإيطاليين الذين قتلوا حين حاصر ابن عمه وقتله.
لكن كل هذا لم يحل دون البحث عن طريقة لتأديب يوغرتا بسبب تحديه لإرادة روما. اقترح الرومان لحكم بلاد البربر مسيفا ، وهو حفيذ آخر لمسينيسا كان لاجئا بروما بعد مقتل عمه الملك أدربعل. أخبر يوغرتا من قبل أصدقائه بمحاولة البرلمان تنحيته عن العرش، فلم يكن منه إلا أن تسلل إلى روما وأرسل من يقتل مسيفا في قلب العاصمة الرومانية قبل أن تتقوى شوكته. غادر يوغرتا روما على التو مرددا عبارته الشهيرة: روما، أيتها المدينة المعروضة للبيع، لتبيدي إذا وجدت من يشتريك .
سنة 110 قبل الميلاد، ستعود معالم الحرب للظهور بين روما من جهة والنوميديين البربر من جهة أخرى على الأرض الإفريقية. طوق أكليد يوغرتا جيوش روما وألحق بها شر هزيمة سترمي بالرومان في هوة من الأحزان والأسى. دوما على رأس جيشه، كان أكليد يوغرتا يحرض ويلهب حماس النوميديين للدفاع عن بلادهم وعن ملكهم، مرة يسخر جيشا ضخما، ومرارا ينتهج سياسات حرب الميليشيات لقض مضجع الجيوش الرومانية. أمام قوة وشجاعة وإيمان النوميديين بقضيتهم، قررت روما تغيير استراتيجياتها ونهج سياسة الأرض المحروقة ومحاولة التآمر من خلال اختراق قواد يوغرتا وشراء ذممهم، إلا أن الملك يوغرتا لم يزدد إلا إيمانا بقضيته، متقنا فنون الحرب واستراتيجيات القتال ومتنقلا من مكان إلى آخر لتجنب الغدر به من قبل أحد قواده. يسلك مسارات ملتوية ليلا ليفاجأ العدو في أرض لا يعرفها جيدا ويسمم الآبار التي ينتظر أن تمر بها جيوش الرومان. دائم الحضور، منتهجا سياسة الكر والفر حتى لا يواجه بجحافل الرومان المدججين بالأسلحة والمزودين بالمؤن.
أرسل ماريوس القائد الروماني أربع فرق من المشاة للقضاء على يوغرتا. وبدخول هذه الحملة العسكرية إلى طرابلس، استقر الرومان في الإثليم بعد أن قضوا على قرطاجة نهائيا. وبذلك وقعت بلدان الشمال الأفريقي تحت قبضة الرومان وسميت باسم أفريقيا الجديدة ( Africa nova)، تميزا لها عن أفريقيا القديمة (Africa vetus). ظل يوغرتا يصارع وحيدا ليهزم أخيرا ويساق مكبلا بالسلاسل إلى روما بعد أن نقض حليفه وصهره ملك موريتانيا الطنجية بالغرب بوكوس الأول التحالف الذي أقاماه قبل ذلك معه. وفي الأول من يناير 104 قبل الميلاد سيموت يوغرتا النوميدي الذي يصفه البعض بهنيبعل الأمازيغ. كان موتا بشعا، إذ أن المكلفين بسجنه في روما جردوا الملك الأمازيغي من كل ملابسه وقطعوا حلمة أذنيه في جذب قوي لحلقات الذهب التي كان يتزين بها، ثم ألقوا به عاريا مضمخا بالدماء إلى قعر زنزاته تحت الأرض. ظل أكليد يوغرتا يصارع ستة أيام الجوع والعذاب متعلقا بخيط رهيف من أجل العيش، ثم قتل خنقا كما يحكي مؤرخو الرومان.
حكم الاقليد الأمازيغي يوغرتا (أو يوكرتن) (Jugurtha) (عام 154 – 104 قبل الميلاد) منطقة النوميديين حكماً صارماً لا رحمة فيه ولا شفقة. اهتم بالجانب العسكري بغية تحصين الدولة ومقاومة الأهداف الاستعمارية للرومان، كما تابع الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها سلفه إلى أن تمكن الرومان من قتله بعد خيانة من ابن جلدته وسجنه في روما لسنوات رفض فيها الركوع لروما من اجل المغفرة وقال " ينكسر عضمي ولا أنحني " . وبذلك تدخل المملكة الأمازيغية بشمال أفريقيا عهد الخضوع والتبعية الكاملة لرومــا حتى ظهرت مقاومات جديدة على يدي تكفاريناس ثم فيرموس وجيلدون وفراكسن ... حتى تحررت البلاد من الرومان بعد أن تحالف الامازيغ مع الوندال وأسقطوا أكبر قوة إستعمارية في العالم القديم هي بمثابة الولايات المتحدة الامريكية اليوم
تعليقات
إرسال تعليق